«جماع تفسير النَّصيحة»
[لمُحمَّد بن نصر بن الحجَّاج الْمَرْوَزِيّ]
• عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ -رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ- قَالَ: "قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ،
الدِّينُ النَّصِيحَةُ))، ثَلَاثًا، قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ: ((لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ،
وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ))".اهـ. [أخرجه الإمام أحمد: (16988)، واللَّفظ له، والإمام مسلم: (95)]
• قالَ الإمام أبُو عبد اللَّـه، مُحمَّد بن نصر المَرْوَزِيّ (ت: 294هـ) -رَحِمَهُ اللَّـهُ
تَعَالَىٰ-: "قال بعض أهل العلم: جماع تفسير النَّصيحة: هُوَ عناية القلب للمنصوح
له، من كان، وهي علىٰ وجهين:
• أحدهما: فرض.
• والآخر: نافلة.
• فالنَّصيحة المفترضة للَّـه: هي شدَّة العناية من النَّاصح باتِّباع محبَّة اللَّـه في أداء ما
افترض، ومجانبة ما حرَّم.
• وأمَّا النَّصيحة الَّتي هي نافلة: فهي إيثار محبَّته على محبَّة نفسه، وذلك أنْ يعرض أمران: أحدهما
لنفسه والآخر لربِّه، فيبدأ بما كان لربِّه ويؤخر ما كان لنفسه، فهذه جملة تفسير النَّصيحة
له الفرض منه والنَّافلة، وكذلك تفسير سنذكر بعضه ليفهم بالتَّفسير من لا يفهم الجملة،
فالفرض منها: مجانبة نهيه وإقامة فرضه، بجميع جوارحه ما كان مطيعًا له، فإن عجز عن
القيام بفرضه لآفة حلَّت به من مرض أو حبس أو غير ذلك عزم على أداء ما افترض عليه متى
زالت عنه العلَّة المانعة له، قال اللَّـهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ
وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ
إِذَا نَصَحُوا لِلَّـهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ﴾ ﴿التَّوبة: ٩١﴾،
فسمَّاهم مُحسنين، نصيحتهم للَّـه بقلوبهم لما منعوا مِن الجهاد بأنفسهم،
وقد يرفع الأعمال كلّها عن العبد في بعض الحالات، ولا يرفع عنهم النُّصح للَّـه لو
كان من المرض بحال لا يمكنه عمل بشيء مِن جوارحه بلسان ولا غيره، غير أنَّ عقله ثابت
لم يسقط عنه النُّصح للَّـه بقلبه، وهُو أنْ يندم علىٰ ذنوبه، وينوي إنْ يصحّ أنْ يقوم
بما افترض اللَّـه عليه، ويتجنب ما نهاه عنه، وإلَّا كان غير ناصح للَّـه بقلبه، وكذلك
النُّصح للَّـه ولرسُوله فيما أوجبه علىٰ النَّاس علىٰ أمر ربّه، ومن النُّصح الواجب
للَّـه: أنْ لا يرضىٰ بمعصية العاصي، ويحبّ طاعة مَن أطاع اللَّـه ورسُوله.
• وأمَّا النَّصيحة الَّتي هي نافلة لا فرض: فبذل المحمود بإيثار اللَّـه علىٰ كل محبوب، بالقلب وسائر الجوارح،
حتَّى لا يكون في النَّاصح فضلًا عن غيره، لأنَّ النَّاصح إذا اجتهد لمنْ ينصحه لم
يُؤثر نفسه عليه، وقام بكلّ ما كان في القيام به سروره ومحبَّته، فكذلك النَّاصح لربِّه
ومَن تنفل للَّـه بدون الاجتهاد؛ فهو ناصح علىٰ قدر عمله غير محق للنُّصح بالكمال.
• وأمَّا النَّصيحة لكتاب الله: فشدَّة حبِّه وتعظيم قدره، إذ هُو كلام الخالق وشدَّة الرَّغبة في
فهمه، ثمَّ شدَّة العناية في تدبّره، والوقوف عند تلاوته لطلب معاني ما أحبّ مولاه
أنْ يفهمه عنه، ويقوم له به بعد ما يفهمه، وكذلك النَّاصح من القلب يتفهّم وصية مَن
ينصحه، وإنْ ورد عليه كتاب منه عنىٰ بفهمه، ليقوم عليه بما كتب به فيه إليه، كذلك النَّاصح
لكتاب اللَّـه يعني يفهمه، ليقوم للَّـه بما أمر به، كما يحب ويرضىٰ، ثمَّ ينشر ما
فهم مِن العباد، ويديم دراسته بالمحبَّة له، والتَّخلُّق بأخلاقه، والتَّأدّب بآدابه.
• وأمَّا النصيحة للرَّسول صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته: فبذل المجهود في طاعته، ونصرته، ومعاونته، وبذل المال إذا أراده،
والمسارعة إلىٰ محبَّته.
• وأمَّا بعد وفاته: فالعناية
بطلب سنَّته، والبحث عن أخلاقه، وآدابه، وتعظيم أمره، ولزوم القيام به، وشدَّة الغضب
والإعراض عن مَن يُدين بخلاف سنَّته، والغضب علىٰ من ضيَّعها لأثرة دنيا وإنْ كان متدينًا
بها؛ وحبّ مَن كان منه بسبيل من قرابة، أو صهر، أو هجرة، أو نصرة، أو صُحبة ساعة من
ليل أو نهار، على الإسلام، والتَّشبه به في زيّه ولباسه.
• وأمَّا النَّصيحة لأئمَّة المسلمين: فحبّ طاعتهم، ورشدهم، وعدلهم، وحبّ اجتماع الأمَّة كلهم، وكراهية
افتراق الأمَّة
عليهم، والتَّدين بطاعتهم في طاعة اللَّـه،
والبُغض لمن رأىٰ الخُروج عليهم، وحبّ إعزازهم في طاعة اللَّـه.
• وأمَّا النَّصيحة للمُسلمين: فأنْ يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويشفق عليهم،
ويرحم صغيرهم، ويُوقّر كبيرهم، ويحزن لحزنهم، ويفرح لفرحهم، وإنْ ضرّه ذلك في دنياه؛
كرخص أسعارهم، وإنْ كان في ذلك ربح ما يبيع مِنْ تجارته، وكذلك جميع ما يضرّهم عامَّة،
ويحبّ صلاحهم وألفتهم، ودوام النّعم عليهم، ونصرهم علىٰ عدوِّهم، ودفع كل أذىٰ ومكروه
عنهم".اهـ.
(["تعظيم قدر الصَّلاة" (694،691/2)])